الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الرسالة **
ولو شك في كتابه بتغييرٍ في الكتاب أو حالٍ تدل على تهمةٍ، من غفلة رسولٍ حَمَلَ الكتابَ: كان عليه أن يطلب علم ما شك فيه حتى يُنفِذَ ما يَثبت عنده من أمر رسول الله. وهكذا كانت كتب خلفائه بعده وعمالُهم، وما أجمع المسلمون عليه: من أن يكون الخليفة واحداً والقاضي واحدٌ، والأمير واحدٌ، والإمامُ. فاستخلفوا أبا بكر، ثم استخلف أبو بكر عمرَ، ثم عمرُ أهلَ الشورى ليختاروا واحداً، فاختار عبدُ الرحمن عثمانَ بن عفان. قال: والولاة من القضاة وغيرهم يقضون، فتَنفُذُ أحكامهم، ويقيمون الحدود، ويُنفِذُ مَن بعدهم أحكامهم، وأحكامُهم أخبارٌ عنهم. ففيما وصفتُ من سنة رسول الله، ثم ما أجمع المسلمون عليه منه: دلالةٌ على فرقٍ بين الشهادة والخبر والحكم. ألا ترى أن قضاء القاضي على الرجل للرجل إنما هو خبر يخبر به عن بينة تثبت عنده، أو إقرار من خصمٍ به أقر عنده، وأنفذ الحكم فيه، فلما كان يلزمه بخبره أن يُنفِذَهُ بعلمه كان في معنى المخبِرِ بحلال وحرام، قد لزمه أن يُحِلَّه ويحّرمه بما شهد منه. ولو كان القاضي المخبرُ عن شهودٍ شهدوا عنده على رجل لم يُحاكَم إليه، أو إقرارٍ من خصم لا يلزمه أن يحكم به، لمعنى أنْ لم يُخاصَم إليه، أو أنه ممن يُخاصَم إلى غيره، فحكم بينه وبين خصمه ما يلزم شاهداً يشهد على رجل أن يأخذ منه ما شُهِدَ به عليه لمن شُهِدَ له به: كان في معنى شاهدٍ عند غيره، فلم يقبل - قاضياً كان أو غيرَه - إلا بشاهد معه كما لو شهد عند غيره لم يقبله إلا بشاهد، وطلب معه غيره، ولم يكن لغيره إذا كان شاهداً أن يُنفِذَ شهادته وحده. أخبرنا سفيان وعبد الوهاب عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيَّب: أن عمر بن الخطاب قضى في الإبهام بخمسَ عشرة، وفي التي تليها بعشر، وفي الوسطى بعشر، وفي التي تلي الخنصر بتسع، وفي الخنصر بست. قال الشافعي: لما كان معروفاً - والله أعلم - عند عمر أن النبي قضى في اليد بخمسين وكانت اليد خمسة أطراف مختلفةِ الجمال والمنافع: نزَّلها منازِلَها، فحكم لكل واحد من الأطراف بقَدْره من دية الكفِّ، فهذا قياس [ أي استنباط مبني على التعليل، وليس معناه القياس الاصطلاحي.] على الخبر. فلما وجدنا كتاب آل عمرو بن حزم فيه: أن رسول الله قال: وفي كل إصبع مما هنالك عشرٌ من الإبل صاروا إليه. ولم يقبلوا كتاب آل عمرو بن حزم - والله أعلم - حتى يثبت لهم أنه كتاب رسول الله. [وفي الحديث دلالتان: أحدهما: قبول الخبر، والآخر: أن يُقبل الخبر في الوقت الذي يثبت فيه، وإن لم يمضي هكذا بإثبات الياء وقدّمنا مراراً توجيهه. ]عمل من الأئمة بمثل الخبر الذي قبلوا. ودلالةٌ على أنه مضى أيضاً عملٌ من أحد من الأئمة، ثم وَجَدَ خبراً عن النبي يخالف عملَه لترك عمله لخبر رسول الله. ودلالةٌ على أن حديث رسول الله يثبت بنفسه لا بعمل غيره بعده. ولم يقل المسلمون قد عَمِل فينا عمر بخلاف هذا بين المهاجرين والأنصار، ولم تذكروا أنتم أن عندكم خلافَه ولا غيرُكم، بل صاروا إلى ما وجب عليهم، من قبول الخبر عن رسول الله، وترك كل عمل خالفه. ولو بلغ عمرَ هذا صار إليه - إن شاء الله - كما صار إلى غيره فيما بلغه عن رسول الله، بتقواه لله وتأديته الواجبَ عليه، في اتباع أمر رسول الله، وعلمه وبأنْ ليس لأحد مع رسول الله أمرٌ، وأن طاعة الله في اتباع أمر رسول الله. فإن قال قائل: فادلُلْني على أن عمر عمل شيئاً، ثم صار إلى غيره بخبرٍ عن رسول الله. قلت: فإن أوجدْتُكَهُ؟ قال: ففي إيجادكَ إياي ذلك دليل على أمرين: أحدهما: أنه قد يقول من جهة الرأي إذا لم توجد سنة، والآخر: أن السنة إذا وُجدت وجب عليه ترك عمل نفسه، ووجب على الناس ترك كل عمل وُجدت السنة بخلافه، وإبطالُ أن السنة لا تثبت إلا بخبرٍ بعدها، وعُلم أنه لا يُوهِنُها شيء إن خالفها. قلت: أخبرنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب كان يقول: الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً. حتى أخبره الضّحّاك بن سفيان أن رسول الله كتب إليه: أن يُوَرِّث امرأة أَشْيَمَ الضِّبَابيِّ من ديته، فرجع إليه عمر. وقد فَسَّرت هذا الحديث قبل هذا الموضع.[ يريد في كتاب الأم 6/77 والحديث رواه أحمد 3/452 وأبو داود والترمذي وابن ماجه] سفيان عن عمرو بن دينار وابن طاوس عن طاوس: أن عمر قال: أُذَكِّرُ اللهَ امرأً سمع من النبي في الجنين شيئاً، فقام حَمَلُ بن مالك بن النابغة، فقال: كنت بين جارتين لي - يعني ضرتين - فضربت إحداهما الأخرى بِمِسْطَح [المسطح: عود من أعواد الخباء والفسطاط الذي يُخبز به.]فألقت جنيناً ميتاً، فقضى فيه رسول الله بِغُرَّةٍ [ الغرة العبد أو الأمة.] فقال عمر: لو لم أسمع فيه لقضينا بغيره. وقال غيره: إن كِدْنا أن نقضي في مثل هذا برأينا. [إسناد الشافعي هنا مرسل فطاوس لم يدرك عمر والحديث رواه أبو داود والنسائي ورواه متصلاً أحمد وأبو داود وابن ماجه عن طاوس عن ابن عباس عن عمر.] فقد رجع عمر عما كان يقضي به لحديث الضّحّاك إلى أن خالف حكم نفسه، وأخبر في الجنين أنه لو لم يسمع هذا لَقَضَى فيه بغيره، وقال: إن كِدنا أن نقضي في مثل هذا برأينا. قال الشافعي: يخبر - والله أعلم - أن السنة إذا كانت موجودة بأن في النفس مائةً من الإبل، فلا يعدو الجنين أن يكون حياً فيكونَ فيه مائةٌ من الإبل، أو ميتاً فلا شيء فيه. فلما أُخبر بقضاء رسول الله فيه سَلَّمَ له، ولم يجعل لنفسه إلا اتِّبَاعه، فيما مضى بخلافه، وفيما كان رأياً منه لم يبلغه عن رسول الله فيه شيء، فلما بَلَغَه خلاف فعله صار إلى حكم رسول الله، وترك حكم نفسه، وكذلك كان في كل أمره. وكذلك يلزمُ الناسَ أن يكونوا. أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سالم: أن عمر بن الخطاب إنما رجع بالناس عن خبر عبد الرحمن بن عوف. قال الشافعي: يعني حين خرج إلى الشام، فبلغه وقوع الطاعون بها. مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه: أن عمر ذكر المجوس، فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال له عبد الرحمن بن عوف: أشهد لَسَمِعت رسول الله يقول: سُنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب. [ رواه مالك في الموطأ 1/264 وهذا إسناد منقطع؛ لأن محمداً لم يلقَ عمر ولا عبد الرحمن بن عوف. لكن معناه متصل من وجوه حسان. انظر شرح الزرقاني على الموطأ 2/73 وفتح الباري 6/186] سفيان عن عمرو: أنه سمع بَجَالَةَ يقول: ولم يكن عمر أخذ الجزية حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي أخذها من مجوس هَجَرٍَ. قال الشافعيوكل حديث كتبته منقطعاً، فقد سمعته متصلاً أو مشهوراً عن من رُوي عنه بنقل عامةٍ من أهل العلم يعرفونه عن عامةٍ، ولكني كرهت وَضع حديثٍ لا أتقنه حفظاً، وغاب عني بعض كتبي، وتحققت بما يعرفه أهل العلم مما حفظتُ، فاختصرت خوف طول الكتاب، فأتيت ببعض ما فيه الكفايةُ دون تقصِّي العلم في كل أمره. فقبل عمر خبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس، فأخذ منهم وهو يتلو القُرَآن فإن قال قائل: قد طلب عمر مع رجل أخبره خبراً آخر؟ قيل له لا يطلب عمر مع رجلٍ أَخبَرَه آخرَ إلا على أحد ثلاث معاني: إما أن يحتاط فيكونَ، [ خبر يكون محذوف للعلم به من السياق، والمعنى: فيكون أوثق عنده. وربما تكون الجملة بعدها هي الخبرَ.] وإن كانت الحجة تثبت بخبر الواحد، فخبر اثنين أكثر، وهو لا يزيدها إلا ثبوتًا. وقد رأيت ممن أثبت خبر الواحد مَن يطلب معه خبراً ثانياً، ويكونُ في يده السنة من رسول الله من خمس وجوه فَيُحَدِّثُ بسادس فيكتبُهُ، لأن الأخبار كلما تواترت وتظاهرت كان أثبتَ للحجة، وأطيبَ لنفس السامع. وقد رأيت من الحكام مَن يَثبت عنده الشاهدان العدلان والثلاثةُ، فيقول للمشهود له: زدني شهوداً وإنما يريد بذلك أن يكون أطيبَ لنفسه، ولو لم يَزِده المشهود له على شاهدين لَحَكَمَ له بهما. ويحتمل أن يكون لم يعرف المخبر فيقفَ عن خبره حتى يأتي مخبرٌ يعرفه. وهكذا ممن أخبر ممن لا يُعرف لم يُقبل خبره. ولا يُقبل الخبر إلا عن معروف بالاستئهال له، لأن يُقبل خبره. ويحتمل أن يكون المخبر له غير مقبول القول عندَه، فيَرُدُّ خبره حتى يجد غيره ممن يَقبل قولَه. فإن قال قائل: فإلى أي المعاني ذهب عندكم عمر؟ قلنا: أما في خبر أبي موسى فإلى الاحتياط، لأن أبا موسى ثقة أمين عنده، إن شاء الله. فإن قال قائل: ما دل على ذلك؟ قلنا: قد رواه مالك بن أنس عن ربيعة عن غير واحد من علمائهم حديثَ أبي موسى، وأن عمر قال لأبي موسى: وأَمَا إني لم أتهمك، ولكن خشيت أن يَتَقَوَّلَ الناس على رسول الله. فإن قال: هذا منقطع. فالحجة فيه ثابتة، لأنه لا يجوز على إمام في الدين - عمرَ ولا غيرِهِ -: أن يقبل خبر الواحد مرة، وقبولُه له لا يكون إلا بما تقوم به الحجة عنده، ثم يَرُدُّ مثله أخرى. ولا يجوز هذا على عالم عاقل أبداً، ولا يجوز على حاكم أن يقضي بشاهدين مرة، ويمنع بهما أخرى، إلا من جهة جَرحهما أو الجهالَةِ بِعَدلهما. وعمر غايةٌ في العلم والعقل والأمانة والفضل. وفي كتاب الله تبارك وتعالى دليل على ما وصفتُ: قال الله: وقال: وقال: وقال: وقال: وقال: وقال: وقال لنبيه محمد صلى الله عليه: وقال: فأقام جل ثناؤه حجته على خلقه في أنبيائه في الأعلام التي باينوا بها خلقه سواهم، وكانت الحجة بها ثابتة على من شاهد أمور الأنبياء ودلائلهم التي باينوا بها غيرهم، ومَن بعدهم، وكان الواحد في ذلك وأكثرُ منه سواءً، تقوم الحجة بالواحد منهم قياماً بالأكثر. قال الشافعي: فَظَاهَرَ الحُجَجَ عليهم باثنين، ثم ثالثٍ، وكذا أقام الحجةَ على الأمم بواحد، وليس الزيادة في التأكيدِ مانعةً أن تقوم الحجة بالواحد، إذ أعطاه ما يبايِنُ به الخلْق غيرَ النبيين. أخبرنا مالك عن سعد بن إسحاقَ بن كعبِ بن عُجْرَةَ عن عمته زينبَ بنتِ كعبٍ: أن الفُرَيْعةَ بنت مالك بن سنانٍ أخبرَتْها أنها جاءت إلى النبي تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خُدْرَةَ، فإن زوجها خرج في طَلَبِ أَعْبُدٍ له، حتى إذا كان بِطَرَفِ القدوم لَحِقَهُم، فقتلوه، فسألتُ رسول الله أن أَرجع إلى أهلي، فإن زوجي لم يتركني في مسكنٍ يملكه، قالت: فقال رسول الله: نعم. فانصرفْتُ، حتى إذا كنتُ في الحُجرة أو في المسجد دعاني، أو أمر بي فَدُعِيت له، فقال: كيف قُلتِ؟ فَرَدَدْتُ عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي، فقال لي: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجلَهُ. قالت: فاعتددت فيه أربعةَ أشهر وعشراً، فلما كان عثمانُ أرسل إلي، فسألني عن ذلك، فأخبَرْتُهُ، فاتَّبَعَهُ، وقضى به. [ رواه في الأم أيضاً 5/208 ورواه أبو داود والترمذي والنسائي كلهم من طريق مالك انظر شرح الزرقاني.] وعثمان في إمامته، وعلمه يقضي بخبر امرأة بين المهاجرين والأنصار. أخبرنا مسلم عن ابن جُريج قال: أخبرني الحسن <ص 440> بن مسلم عن طاوسٍ قال: كنت مع ابن عباس إذ قال له زيد بن ثابت: أَتُفتي أن تَصْدُِرَ الحائض قبل أن يكون آخرُ عهدها بالبيت؟ فقال له ابن عباس: إما لى [ أصلها: (إما لا)، وأصل (إما) : (إن ما) فأُميلت (لا) إمالة صغرى لتضمّنها معنى الجملة فالقاس أن الحروف لا تُمال والإمالة لغة قريش وهي لغة الشافعي. ومعناها: إن لم يكن هذا فاسأل فلانة...ومعناه عامةً: إن لم تفعل هذا فليكن هذا.] فاسأل فلانة الأنصارية: هل أمرها بذلك النبي؟ فرجع زيد بن ثابت يضحك، ويقول ما أراك إلا قد صدقت. [ روى الحديث الشيخان وغيرهما وروى القصة أحمد رقم 1990 و 3256 والبيهقي 5/163] قال الشافعي: سمع زيدٌ النهي أن يَصْدُِر أحد من الحاجِّ حتى يكون آخرُ عهده بالبيت، وكانت الحائض عنده من الحاجِّ الداخلين في ذلك النهي، فلما أفتاها ابن عباس بالصَّدَر إذا كانت قد زارت بعد النحر: أنكر عليه زيد، فلما أخبره عن المرأة أن رسول الله أمرها بذلك فسألها فأخبرته، فصدَّق المرأة، ورأى عليه حقاً أن يرجع عن خلاف ابن عباس، وما لابن عباس حجة غيرُ خبر المرأة. سفيان عن عمرو عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفً البَـِكَاليَّ يزعم أن موسى صاحبَ الخضر ليس موسى بني إسرائيل؟ فقال ابن عباس: كذب عدو الله! أخبرني أبيّ بن كعب قال: خطبنا رسول الله، ثم ذكر حديث موسى والخضر بشيء يدل على أن موسى صاحبُ الخضر. فابن عباس مع فقهه وورعه يُثبت خبر أبي بن كعب عن رسول الله حتى يُكَذِّبَ به امرأ من المسلمين، إذ حدثه أبي بن كعب عن رسول الله بما فيه دلالة على أن موسى بني إسرائيل صاحبُ الخضر. أخبرنا مسلم وعبد المجيد عن ابن جريج أن طاوساً أخبره أنه سأل ابن عباس عن الرَّكعتين بعد العصر؟ فنهاه عنهما[ ظاهر هذا أن ابن عباس نهى طاوساً من نفسه أي برأيه وبهذا لا يكون ثمة حجة على طاوس مع استشكال إيراد الآية على لسان ابن عباس! لكن عند البيهقي 2/453 من طريق آخر أن ابن عباس قال: ((إنه قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاةٍ بعد العصر)) وعلى لا إشكال.] ، قال طاوس: فقلت له: ما أدعهما، فقال ابن عباس: فرأى ابن عباس الحجةَ قائمةً على طاوس بخبره عن النبي، ودَلَّهُ بتلاوة كتاب الله على أن فرضاً عليه أن لا تكونَ له الخِيَرَةُ إذا قضى الله ورسوله أمرًا. وطاوس حينئذ إنما يَعلم قضاء رسول الله بخبر ابن عباس وحده، ولم يدفعه طاوس بأن يقول: هذا خبرك وحدك، فلا أُثبته عن النبي، لأنه يمكن أن تنسى. فإن قال قائل: كره أن يقول: هذا لابن عباس؟! فابن عباس أفضل من أن يَتَوَقَّى أحد أن يقول له حقاً رآه، وقد نهاه عن الركعتين بعد العصر، فأخبره أنه لا يدعهما، قبل أن يُعْلمه أن النبي نهى عنهما. سفيان عن عمرو عن ابن عمر قال: كنا نُخَابِرُ،[ المخابرة: مُزارَعَة الأرض بجزء منها، كالثلث أو الربع أو بجزء معين من الخارج وفيها خلاف منتشر تُنظَر في مظانِّها.] ولا نرى بذلك بأساً، حتى زعم رافع أن رسول الله نهى عنها، فتركناها من أجل ذلك. فابن عمر قد كان ينتفع بالمخابَرة، ويراها حلالاً، ولم يتوسع، إذ أخبره واحد لا يتهمه عن رسول الله أنه نهى عنها: أن يُخَابِرَ بعد خَبَرِهِ، ولا يستعملَ رأيه مع ما جاء عن رسول الله، ولا يقولَ: ما عاب هذا علينا أحد، ونحن نعمل به إلى اليوم. وفي هذا ما يبين أن العمل بالشيء بعد النبي إذا لم يكن بخبر عن النبي لم يُوهِن الخبر عن النبي عليه السلام. أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان باع سِقَايةً من ذهب أو وَرِق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله ينهى عن مثل هذا، فقال معاوية: ما أرى بهذا بأساً! فقال أبو الدرداء: مَن يَعذِرُني من معاوية! أُخبره عن رسول الله، ويخبرني عن رأيه؟!لا أساكنك بأرض.[ الحديث رواه النسائي مختصراً عن مالك. قال الزرقاني في شرح الموطأ 3/115 ((قال أبو عمر: لا أعلم أن هذه القصة عَرَضت لمعاوية مع أبي الدرداء إلا من هذا الوجه، إنما هي محفوظة لمعاوية مع عبادة بن الصامت، والطرق متواترة بذلك اهـ والإسناد صحيح والجمع ممكن))] فرأى أبو الدرداء الحجة تقوم على معاوية بخبره، ولما لم يَرَ ذلك معاوية فارق أبو الدرداء الأرض التي هو بها، إعظاماً لِأَنْ تَرَكَ خبر ثقة عن النبي. وأُخبرنا أن أبا سعيد الخدري لقي رجلاً، فأخبره عن رسول الله شيئاً، فذكر الرجل خبراً يخالفه، فقال أبو سعيد: والله لا آواني وإياك سقف بيت أبداً. قال الشافعي: يرى أن ضَيِّقاً على المخبر أن لا يقبل خبره، وقد ذكر خبراً يخالف خبرَ أبي سعيد عن النبي، ولكنْ في خبره وجهان: أحدهما: يحتمل به خلافَ خبر أبي سعيد، والآخر: لا يحتمله. أخبرنا من لا أتهم عن ابن أبي ذئب عن مَخلد بن خُفَاف قال: ابتعت غلاماً، فاستغللته، ثم ظَهَرتُ منه على عيب، فخاصمت فيه إلى عمر بن عبد العزيز، فقضى لي بِرَدِّهِ، وقضى علي بِرَدِّ غَلَّتِه، فأتيت عروة، فأخبرته، فقال: أروح عليه العَشِيَّة، فأُخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول الله قضى في مثل هذا أن الخراج بالضّمان، فَعَجِلت إلى عمر، فأخبرته ما أخبرني عروة عن عائشة عن النبي، فقال عمر: فما أَيسرَ عليَّ من قضاء قضيتُه، الله يعلم أني لم أُرد فيه إلا الحق، فبلغتني فيه سنة رسول الله، فأَرُدُّ قضاء عمر، وأُنَفِّذ سنة رسول الله. فراح إليه عروة فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به علي له.[ رواه البهقي في السنن 5/321 من طريق الشافعي. وحديث (الخراج بالضمان) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد. ] أخبرني من لا أتهم من أهل المدينة عن ابن أبي ذئب قال قضى سعد بن إبراهيم على رجل بقضية برأي ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فأخبرته عن النبي بخلاف ما قضى به، فقال سعد لربيعة: هذا بن أبي ذئب، وهو عندي ثقة، يخبرني عن النبي بخلاف ما قضيتُ به؟ فقال له ربيعة: قد اجتهدتَ، ومضى حكمك، فقال سعدٌ: واعَجَبَا! أُنْفذ قضاء سعد بن أم سعد وأردُّ قضاء رسول الله؟! بل أرد قضاء سعد بن أم سعد وأنفذ قضاء رسول الله، فدعا سعد بكتاب القضية فَشَقَّه وقضى للمقضيِّ عليه. قال الشافعي: أخبرني أبو حنيفة بن سمِاك بن الفضل الشهابي قال حدثني ابن أبي ذئب عن المقْبُري عن أبي شريح الكعبي أن النبي قال عام الفتح: (من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين: إن أحب أخَذَ العقلَ، وإن أحب فله القَوَدُ) [ رواه أحمد وابن ماجه وروي عن ابي هريرة معناه رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة. والعقل الدية والقود القصاص.] قال أبو حنيفة: فقلت لابن أبي ذئب: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث؟ فضرب صدري، وصاح علي صياحاً كثيراً، ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله، وتقول تأخذ به؟! نعم آخذ به. وذلك الفرض عليَّ، وعلى من سمعه، إن الله اختار محمداً من الناس، فهداهم به، وعلى يديه، واختار لهم ما اختار له، وعلى لسانه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخِرين، لا مَخرج لمسلم من ذلك. قال: وما سكت حتى تمنيت أن يسكت. قال: وفي تثبيت خبر الواحد أحاديث، يكفي بعضُ هذا منها. ولم يزل سبيل سلفنا والقرونِ بعدهم إلى من شاهدنا هذا السبيل. وكذلك حُكي لنا عمن حُكي لنا عنه من أهل العلم بالبلدان. قال الشافعي: وجدنا سعيدً[ هكذا بالتنوين من غير ألف وقدمنا مراراً أنه فصيح. ] بالمدينة يقول: أخبرني أبو سعيد الخدري عن النبي في الصَّرف فَيُثَبِّت حديثه سنّةً. ويقول: حدثني أبو هريرة عن النبي، فيُثَبت حديثه سنّةً، ويروي عن الواحد غيرهما فيثبت حديثه سنّةً. ووجدنا عروة يقول: حدثتني عائشة: (أن رسول الله قضى أن الخراج بالضمان) فَيُثَبِّته سنَّة، ويروي عنها عن النبي شيئاً كثيراً فيثبتها سنناً يُحِل بها ويحرم. وكذلك وجدناه يقول: حدثني أسامة بن زيد عن النبي. ويقول: حدثني عبد الله بن عمر عن النبي وغيرُهما، فيُثَبِّت خبر كل واحد منهما على الانفراد سنة. ثم وجدناه أيضا يَصير إلى أن يقول: حدثني عبد الرحمن بن عبدٍ القاريُّ عن عمر، ويقول: حدثني يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه عن عمر. ويثبت كلَّ واحد من هذا خبرً عن عمر. ووجدنا القاسم بن محمد يقول: حدثتني عائشة عن النبي، ويقول في حديث غيره: حدثني ابن عمر عن النبي. ويثبت خبر كل واحد منهما على الانفراد سنة. ويقول حدثني عبد الرحمن ومجمِّع ابنا يزيد بن جاريةَ عن خنساءَ بنت خِدَامِ عن النبي. فيثبت خبرها سنة، وهو خبر امرأة واحدة. ووجدنا علي بن حسين يقول: أخبرنا عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد أن النبي قال: (لا يرث المسلم الكافر ). [ رواه الجماعة إلا مسلماً والنسائي.] فيثبتها سنة، ويثبتها الناس بخبره سنة. ووجدنا كذلك محمد بن علي بن حسين يخبر عن جابر عن النبي، وعن عبيد الله بن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي. فيثبت كل ذلك سنة. ووجدنا محمد بن جبير بن مطعم، ونافع بن جبير بن مطعم، ويزيدَ بن طلحة بن رُكَانة، ومحمد بن طلحة بن ركانة، ونافعَ بن عُجَير بن عبد يزيدَ، وأبا أسامة بن عبد الرحمن، وحُميدَ بن عبد الرحمن، وطلحةَ بن عبد الله بن عوفٍ، ومصعبَ بن سعد بن أبي وقاص، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبد الرحمن بن كعب بن مالك، وعبد الله بن أبي قتادة، وسليمان بن يسار، وعطاء بن يسار، وغيرهم من محدثي أهل المدينة: كلُّهم يقول: حدثني فلان لرجل من أصحاب النبي عن النبي، أو من التابعين عن رجل من أصحاب النبي. فنُثَبِّت ذلك سنة. ووجدنا عطاءً، وطاوسً، ومجاهدً، وابن أبي مليكة، وعكرمة بن خالد، وعبيد الله بن أبي يزيد، وعبد الله بن باباه، وابن أبي عمارٍ، ومحدثي المكيين، ووجدنا وهب بن مُنَبِّهٍ هكذا، ومكحولً بالشأم، وعبد الرحمن بن غنم، والحسن، وابن سيرين بالبصرة، والأسود، وعلقمة، والشعبي بالكوفة، ومحدثي الناس، وأعلامَهم بالأمصار: كلُّهم يُحفظ عنه تثبيت خبر الواحد عن رسول الله، والانتهاء إليه، والإفتاء به، ويقبله كل واحد منهم عن من فوقه، ويقبله عنه مَن تحته. ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أحمع المسلمون قديما وحديثاً على تثبيت خبر الواحد، والانتهاء إليه، بأنه لم يُعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبَّته جاز لي. ولكنْ أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد بما وصفتُ من أن ذلك موجوداً [ تقدم توجيه نحوه وأنه على لغة من ينصب معمولي (أن) وهو قليل.] على كلهم. قال: فإن شُبِّه على رجل بأن يقول: قد روي عن النبي حديث كذا، وحديث كذا، وكان فلان يقول قولاً يخالف ذلك الحديث. فلا يجوز عندي عن عالم أن يُثبت خبر واحد كثيراً، ويُحِل به، ويحرم، ويردَّ مثله: إلا من جهة أن يكون عنده حديث يخالفه، أو يكونَ ما سمع ومَن سمع منه أوثقَ عنده ممن حدَّثه خلافه، أو يكونَ من حدثه ليس بحافظ، أو يكونَ متهماً عنده، أو يَتَّهِمَ من فوقه ممن حدثه، أو يكونَ الحديث محتملا معنيين، فيتأوّلَُ فيذهبَُ إلى أحدهما دون الآخر. فأما أن يتوهَّم متوهِّم أن فقيهاً عاقلاً يُثبت سنة بخبر واحد مرةً ومراراً، ثم يدعُها بخبرِ مثلِهِ وأوثق بلا واحدٍ من هذه الوجوه التي تُشَبَّه بالتأويل كما شُبِّه على المتأولين في القُرَآن، وتُهَمَةِ المخبِر، أو علمٍ بخبر خلافه، فلا يجوز إن شاء الله. فإن قال قائل: قلَّ فقيه في بلد إلا وقد روى كثيراً يأخذ به وقليلاً يتركه؟ فلا يجوز عليه إلا من الوجه الذي وصفتُ ومن أن يروي عن رجل من التابعين أو مَن دونهم قولاً لا يلزمه الأخذ به، فيكونَ إنما رواه لمعرفة قوله، لا لأنه حجة عليه وافقه أو خالفَه. فإن لم يسلك واحداً من هذه السبل فيُعذرَ ببعضها، فقد أخذ خطأ لا عذر فيه عندنا والله أعلم. فإن قال قائل: هل يفترق معنى قولك: حجة؟ قيل له: إن شاء الله نعم. فإن قال: فَأَبِنْ ذلك؟ قلنا: أما ما كان نصَّ كتاب بيِّن أو سنةٍ مجتمع عليها فيها مقطوع، ولا يسع الشكُّ في واحد منهما، ومن امتنعَ من قبوله استُتِيب. فأما ما كان من سنة من خبر الخاصة الذي يختلف الخبر فيه، فيكون الخبر محتملاً للتأويل، وجاء الخبر فيه من طريق الانفراد: فالحجة فيه عندي أن يلزم العالمين حتى لا يكون لهم ردُّ ما كان منصوصاً منه، كما يلزمهم أن يقبلوا شهادة العدول، لا أن ذلك إحاطةٌ كما يكون نص الكتاب وخبرُ العامة عن رسول الله. ولو شك في هذا شاكّ لم نقل له: تب، وقلنا: ليس لك - إن كنت عالماً - أن تشك، كما ليس لك الا ان تقضي بشهادة الشهود العدول، وإن أمكن فيهم الغلط، ولكن تقضي بذلك على الظاهر من صدقهم، والله ولي ما غاب عنك منهم. فقال: فهل تقوم بالحديث المنقطع حجة على مَن علمه؟ وهل يختلف المنقطع؟ أو هو وغيره سواءٌ؟ قال الشافعي: فقلت له: المنقطع مختلف: فمن شاهدَ أصحاب رسول الله من التابعين، فحدَّث حديثاً منقطعاً عن النبي: اعتُبر عليه بأمور: منها: أن ينظر إلى ما أَرسل من الحديث، فإن شَرِكَه فيه الحفاظ المأمونون، فأسندوه الى رسول الله بمثل معنى ما روى: كانت هذه دلالةً على صحة مَن قبل عنه وحفظه. وإن انفرد بإرسال حديث لم يَشركه فيه من يُسنده قُبِل ما ينفرد به من ذلك. ويعتبر عليه بأن ينظر: هل يوافقه مرسِل غيره ممن قُبل العلم عنه من غير رجاله الذين قُبل عنهم؟ فإن وُجد ذلك كانت دلالةً يَقوى له مرسلُه، وهي أضعف من الأولى. وإن لم يُوجَد ذلك نُظر إلى بعض ما يُروى عن بعض أصحاب رسول الله قولاً له، فإن وُجد يُوافق ما روى عن رسول الله كانت في هذه دلالةٌ على أنه لم يأخذ مرسَلَه إلا عن أصل يصح إن شاء الله. وكذلك إن وُجد عوامُّ من أهل العلم يُفتون بمثل معنى ما روى عن النبي. قال الشافعي: ثم يُعتبر عليه: بأن يكون إذا سمى من روى عنه لم يسمِّي مجهولاً ولا مرغوباً عن الرواية عنه، فيُستدل بذلك على صحته فيما روى عنه. ويكون إذا شَرِك أحداً من الحفاظ في حديث لم يخالفه، فإن خالفه وُجد حديثه أنقصَ: كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه. ومتى ما خالف ما وصفت أضرَّ بحديثه، حتى لا يسع أحداً منهم قبول مرسله قال: وإذا وجدت الدلائل بصحة حديثه بما وصفت أحببنا أن نقبل مرسله. ولا نستطيع أن نزعُم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالموتَصِل. ِ وذلك أن معنى المنقطع مُغَيَّب، يحتمل أن يكون حمُل عن من يُرغب عن الرواية عنه إذا سُمّي وإن بعض المنقطعات - وإن وافقه مرسل مثله - فقد يحتمل أن يكون مخرجها واحداً، من حيث لو سمي لم يُقبل، وأن قول بعض أصحاب النبي - إذا قال برأيه لو وافقه - يدل على صحة مَخرج الحديث، دلالةً قوية إذا نُظر فيها، ويمكن أن يكون إنما غلِط به حين سمِع قول بعض أصحاب النبي يوافقه، ويحتمل مثل هذا فيمن وافقه من بعض الفقهاء. فأما مَن بعد كبار التابعين الذين كثرت مشاهدتهم لبعض أصحاب رسول الله: فلا أعلم منهم واحداً يُقبل مرسله لأمور: أحدها: أنهم أشد تجوّزاً فيمن يروون عنه، والآخر: أنهم يوجد عليهم الدلائل فيما أرسلوا بضعف مخرجه. والآخر: كثرةُ الإحالة. كان أمكن للوَهَم وضعفِ مَن يُقبل عنه. وقد خَبَرْت بعض من خَبَرْتُ من أهل العلم، فرأيتهم أُتُوا من خصلة وضدِّها: رأيت الرجل يَقْنع بيسير العلم، ويريد إلا أن يكون مستفيداً إلا من جهة قد يتركه من مثلها أو أرجحَ، فيكون من أهل التقصير في العلم. ورأيت من عاب هذه السبيلَ، ورغب في التوسع في العلم، مَن دعاه ذلك الى القبول عن من لو أمسك عن القبول عنه كان خيراً له. ورأيت الغفلة قد تدخل على أكثرهم، فيقبلُ عن من يَردُّ مثله وخيراً منه. ويُدخَل عليه، فيقبلُ عن من يعرف ضعفه، إذا وافق قولاً يقوله! ويردُّ حديث الثقة إذا خالف قولاً يقوله! ويُدخَل على بعضهم من جهات. ومن نظر في العلم بخِبْرة وقلةِ غفلة، استوحش من مرسَلِ كلِّ مَن دون كبار التابعين، بدلائل ظاهرة فيها. قال: فلمَ فرَّقت بين التابعين المتقدمين الذين شاهدوا أصحاب رسول الله، وبين من شاهد بعضهم دون بعض؟ فقلت: لبعد إحالة من لم يشاهد أكثرهم. قال: فلم لم تقبل المرسَل منهم، ومن كل فقيه دونهم؟ قلت: لما وصفت. ُ قال: وهل تجد حديثاً تبلغ به رسولَ الله مرسلاً عن ثقة لم يقل أحداً من أهل الفقه به؟ قلت: نعم، أخبرنا سفيان عن محمد بن المنكدر: أن رجلاً جاء الى النبي، فقال: يا رسول الله! إن لي مالاً وعيالاً، وإن لأبي مالاً وعيالاً، وإنه يريد أن يأخذ مالي، فيُطعِمَهُ عياله. فقال رسول الله: (أنت ومالك لأبيك). [انظر الجامع الصغير 2712 ورواه أحمد في المسند من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده 2/179،214،204] فقال: أما نحن فلا نأخذ بهذا، ولكن من أصحابك من يأخذ به؟ فقلت: لا، لأن مَن أخذ بهذا جعل للأب الموسر أن يأخذ مال ابنه. قال: أجل، وما يقول بهذا أحد. فلمَ خالفه الناس؟ قلت: لأنه لا يَثبت عن النبي، وأن الله لما فرض للأب ميراثه من ابنه، فجعله كوارثٍ غيرِه، فقد يكون أقلَّ حظاً من كثير من الورثة: دلَّ ذلك على أن ابنه مالكٌ للمال دونه. قال: فمحمد بن المنكدر عندكم غاية في الثقة؟ قلت: أجل، والفضلِ في الدين والورع، ولكنا لا ندري عن من قَبِل هذا الحديث. وقد وصفت لك الشاهدين العدلين يشهدان على الرجل فلا تُقبل شهادتهما حتى يُعَدِّلاهما أو يُعدلهما غيرهما. قال: فتذكرُ من حديثكم مثل هذا؟ قلت: نعم، أخبرنا الثقة عن ابن أبي ذئب عن ابن شهاب: (أن رسول الله أمر رجلاً ضحك في الصلاة أن يعيد الوضوء والصلاة) فلمْ نَقبل هذا، لأنه مرسل. ثم أخبرنا الثقة عن مَعْمَر عن بن شهاب عن سليمان بن أرقَمَ عن الحسن عن النبي: بهذا الحديث وابن شهاب عندنا إمام في الحديث والتخيير وثِقةِ الرجال، إنما يُسمي بعض أصحاب النبي، ثم خيارَ التابعين، ولا نعلم محدثا يسمي أفضل ولا أشهر ممن يحدِّث عنه ابن شهاب. قال: فأنى تُرَاه أتى في قبوله عن سليمان بن أرقم؟ رآه رجلاً من أهل المروءة والعقل، فَقَبِل عنه، وأحسن الظن به، فسكت عن اسمه إما لأنه أصغر منه، وإما لغير ذلك، وسأله مَعْمر عن حديثه عنه، فأسنده له. فلما أمكن في ابن شهاب أن يكون يروي عن سليمان مع ما وصفت به ابن شهاب: لم يُؤمَن مثل هذا على غيره. قال: فهل تجد لرسول الله سنة ثابتة من جهة الاتصال خالفها الناس كلهم؟ قلت: لا، ولكن قد أجد الناس مختلفين فيها: منهم من يقول بها، ومنهم من يقول بخلافها. فأما سنةٌ يكونون مجتمعين على القول بخلافها، فلم أجدها قط، كما وجدت المرسَل عن رسول الله. قال الشافعي: وقلت له: أنت تسأل عن الحجة في رد المرسل وترده، ثم تجاوز فتردُّ المسنَدَ الذي يلزمك عندنا الأخذ به!!
|